السبت، 29 أغسطس 2020

أباطيل وأسمار

 

قراءة في كتاب: أباطيل وأسمار لأبي فهر؛ محمود محمد شاكر

بقلم: طارق عاشوري



محمود محمد شاكر، قرأت له أول مرة يوم تصفحت تحقيقه على كتاب أسرار البلاغة للجرجاني، وأدهشني أسلوبه الذي استطاع أن يحيلني متعطشا لقراءة كتبه والبحث عنها، فإذا الرجل أكثر من محقق.

ما أثارني فيه منذ أول وهلة، هو وصله كل القضايا التي يشهدها الأدب وعلومه، بالتاريخ القريب والبعيد للعالم العربي عموما، ولمصر خاصة، وكان في ذلك كله يتحدث عن التغريبة التي عانى منها التعليم الابتدائي والثانوي، والتي تولى كبرها المستشرقون الذين لم يهدأ لهم بال، إلا حين أخضعوا فكر العرب والمسلمين لما أطلقوا عليه اسم المنهج، متسترين خلفه ليعكروا صفو الثقافة الإسلامية التي أشرفت على إنتاجها حضارة عمّرت ثلاثة عشر قرنا، بل أكثر.

ومن مقدمة تحقيقه أسرار البلاغة، وجدت نفسي مجبرا على قراءة بع مؤلفاته التي ذكرها في هذه المقدمة، والتي كان منها كتاب المتنبي، الذي قدّم له بعمل وجب أن يوضع نصب أعين كل مثقف يروم الإحاطة بتاريخ النهضة العربية الحديثة، وما سبقها من مكر لطيور الظلام التي لم تزل تصارع في خفاء، وتدبر بدهاء، ما من شأنه أن يعيد هذه الأمة إلى جهلها وأميتها التي كانت قبل نبوغها وتفوقها بالدين المبارك، وذلك هو "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا"، الذي كان أبرز أفكاره أن الغرب الذي حاربنا قرونا طوالا، أدرك أن التفوق العسكري ليس حلا لهزيمة هذه الأمة، فإنها كانت تنتصر  في كل محاولة يحاولها -رغم تقدم تجهيزاته- بل الحل هو الدخول في ثقافتها التي تجمع عقيدتها وطريقة تفكير أفرادها، وليس من حل إلا استهداف الأجيال الناشئة، والمصيَدة هي هنا مناهج التعليم التي نجحت فيما بعد فيما كان يُخطط له.

وفي "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا" يوغل أبو فهر رحمه الله في بيان القضية التي زلزلت العرب آنذاك، وهي قضية الشعر الجاهلي التي كان طه حسين مذيعها في كتابه "الشعر الجاهلي"، وكيف سقطت على فكر محمود شاكر مصيبةً لأنه كان حينئذ تلميذا لطه في الجامعة، ثم خرج منها -كما يتابع في "مداخل إعجاز القرآن"- بمنهج كان مرافقه فيما بعد، وهو التذوّق، وبالتذوّق نجد شاكرا يتابع سيرة المتنبي، وبه يواصل تحقيقاته في نسبه وتنبُّئه وحبه خولة أخت سيف الدولة الحمداني...

وهو في أثناء كلامه في الرسالة، يحيل قارئه إلى مسائل في كتاب آخر، لم أكن أمتلكه بعد في ذلك الوقت، وهو الذي أريد الحديث عنه في هذه القراءة السريعة، وهو وإن أعطاك في رسالة الثقافة تاريخا سريعا تتوالى أحداثه دون توقف، إلا حين تصل إلى مأساة الشعر الجاهلي، وما تلاها من مآس، منها ما كُتب عن المتنبي، الذي لم يدّعوا عيبا إلا ألصقوه به، إضافة إلى كونه -في رأيهم- كان متملقا (أو ما أسماه أحدهم في هذا العصر شحاذة)، فإنه في هذا الكتاب يعطيك صورا ثابتة أحيانا، ومتحركة ببطء أحيانا أخرى، يستعرض فيها دمى التبشير التي عاصرته أو سبقته بمدة قصيرة، وهي تعيث في أرض الأدب واللغة فسادا، حتى أضحى معلوما لمن يسمعهم أن ترهاتهم لا تعدو أن تكون أباطيل مزعومة ، وأسمار سكارى لا يعلمون ما يقولون ولا ما يفعلون.

موضوع الكتاب:

حين تصفحت كتاب أباطيل وأسمار، أول مرة في المكتبة، نظرت في فهرسته، فإذا بي أجد أسماء ليست التي اعتدتها في نمطه الصعب، ولا في مداخل الإعجاز، ولا في غير ذلك من تحقيقاته، لم أر غير أسماء شخوص من العصر الحديث، وإذا أكثرهم ذكرا: "لويس عوض"، وبدأت تصفحه، غير أني وقفت بعد مقالات ثلاثة، وإذا بالحديث كله عن المعري أبي العلاء، وعن ترجمته التي استقاها عوض --زعما- من كتاب طه حسين "مع أبي العلاء".

ما جذبني في هذه المقالات الفاتحة للكتاب، أسلوب أبي فهر الساخر، الذي لم أره في غير ذلك من المؤلفات، لم يسخر من طه حسين حتى حين اتهمه بسرقة مادة كتابه المتنبي، ولم يسخر ممن نفى الوحدة من قصيدة رثاء تأبط شرا في كتاب "نمط صعب ونمط مخيف"، كما سخر من لويس عوض، غير أن مشاغل أجبرتني على إعادة الكتاب إلى مكانه من رفوف مكتبتي مع إخوانه.

وعدت إليه مرة أخرى، عدت لأقرأ -فيما أظن- عن أبي العلاء المعري وترجمته التي شوهها لويس هذا، وأعدت القراءة.

أباطيل وأسمار من لويس عوض، أن يحاول قراءة شيء من التراث، وهو بذلك يرتكب أخطاء منهجية مع أنه أذاع بين الناس وأشاع، بأن ما جاء به منهج علمي في البحث والتدقيق (تماما كما فعل طه حسين في عاصفة الشعر الجاهلي)، وهذا أمر جعل شاكر يقلب منهجه رأسا على عقب، ويصل إلى نتائج كان أهمها أن لويس هذا دعيّ لا علاقة له بما يكتب من أباطيل عن أبي العلاء المعري، وليس بحثه هذا من المنهج العلمي في شيء.

والقارئ أعمال أبي فهر، سيجد أن كلمة المنهج من أشد الكلمات وقعا في نفسه، إذ إنها تكاد تخنقه متى سمعها، لأنها قناع يأتي فيه رائدو التجديد الذين يكثرون يوما بعد يوم في أوساطنا المثقفة، إنها سلاح أقوى ضررا من قنبلة هيدروجينية، وأكثر خبثا من ذرائع الاستعمار الذي غزا أرض الإسلام فلم يستطع أن يفعل بها ما فعلته كلمة "منهج".

وفي خضم الترهات التي ملأ بها لويس عوض أعمدة كثيرة من صفحات جريدة الأهرام، يقف شاكر ليقول كلمته، وقد استطاع بمنهج دقيق وعر، أن يستخلص شخصية هذا المتطلع إلى تاريخ وحضارة العرب والمسلمين، وهو في ذلك يورد كلامه، وما وقع فيه من الهذيان، فكان نتاج ذلك أنه خبل يكتب، وليس إنسانا يكتب خبلا، ومن ذلك ما ظنه من شعر أبي العلاء، وصفا لحلب والصلبان تغص بها، فإذا هو الصليان بالياء، وإذ الأبيات في وصف نوق ترعى هذا النبات.

ثم يجوب بنا شاكر فيافي عبقرية لويس عوض التي لم تكتف بشعر أبي العلاء ولا بتزوير ترجمته بادعاء أنه تلميذ من تلاميذ راهب دير الفاروس باللاذقية، فتتعداه إلى تفسير القرآن، وربط وردة كالدهان بـ روزا مستيكا التي هي مريم أم المسيح، ظنا منه أن وردة المذكورة في سورة الرحمن من الورد المعروف الذي يُشم.

غير أن أبا فهر رحمه الله، لم يواصل في مقالاته دفاعه عن أبي العلاء فيما اتهم به من تلمذة لراهب دير الفاروس، فإنه بعد أن استقرأ كتب التراجم التي ترجمت لشيخ المعرة بمنهج تاريخي دقيق، توصل إلى أن ما ذكره لويس ليس حقيقة، بل هو تزوير لكلام بعض المترجمين، وآخرهم طه حسين، الذي لم ينتبه لخطئه ذلك، وأن هذه الحادثة لها من الأدلة ما يدحضها، وهي بين لغوية تركيبية، وتاريخية اجتماعية، وهنا توقف شاكر، وانتبه إلى مراد لويس عوض، فلا يريد من خلال هذه المقالات التي جعل أبا العلاء موضوعا في بعضها، إلا ليضرب مجموعة من الثوابت، ومنها ما لم يستح من ذكره عن موت الشعر العربي، وكسر عنق البلاغة واللغة العربية، والأجراس التي تتبع ذلك من موسيقى التجديد الذي لم يكن تجديدا مرادا في ذاته، بل كان وراءه قضية أخرى، .. الفصحى والعامية.

شاكر والعامية ... تاريخ طويل:

قضية الفصحى والعامية التي أثارها لويس عوض في سلسلة مقالاته التي نشرتها جريدة الأهرام، داعيا إلى مقارنة -لا مسوغ علمي ولا منهجي ولا واقعي لها- بين اللاتينية والإيطالية من جهة، والعربية واللهجة المصرية من جهة ثانية، معتقدا أن ما بين اللاتينية والإيطالية أقرب مما بين العربية والمصرية العامية، ولم يكتف لويس بهذا بل تجاوزه إلى الاعتراف بأن دعوى اللجوء إلى العامية لن يقبلها منه المصريون، وخاصة المسلمون، بل يجب أن يقوم بعبئها رجل من بني جلدتهم، فيكون الأمر أمضى وأكثر نجاعة.

وفي كل ذلك نجد شاكرا يحلل نوايا هذا المجترئ على لغة القرآن، ويسبر داخله بشيء من التمهل والحذر، يرافقه ذلك الأسلوب الذي لم يعهد مثله في كتابات شاكر ؛ الهزل.

محمود شاكر لم يعدّ القضية مجرد هتافات يصدرها هذا أو غيره ممن أسماهم المعلمين الأوائل؛ من أمثال سلامة موسى وغيره، لأن هؤلاء كانوا جادين في دعواتهم تلك، خاصة عندما صرّح لويس بأنه مهمة يجب أن يُصبَر عليها، حتى يأخذها واحد من بني جلدتهم ليُسمع رأيه ويطاع، وقد جاء معه وبعده من رأى رأيه، وحسب العربية لغة دينية لا أكثر، فلا تعدو أن تكون لغة تعبُّدٍ دون تواصل، متناسين أن اللغة قبل ذلك كله فكر وثقافة أمة، بل منهج تفكير، إن ضاعت ضاع منهجهم، بل ضاعوا بعدها إلى الأبد.

ومن لويس وأتباعه، يسير بنا أبو فهر نحو شخصية ليزيل عنها غطاءها، وهي شخصية الكاتب توفيق الحكيم، عضو مجمع اللغة العربية آنذاك، وقد ألف مقالات عن العامية المصرية يبين فيه أنها ليست سوى صورة من صور العربية الفصيحة، فلا اختلاف إلا في بعض الظواهر الصوتية والإعرابية، فالحديث بها هو حديث بالعربية لا غير، ويعد شاكر هذا الكلام هذيانا، لأنه خرج من قريحة رجل عضو في المجمع اللغوي، ومن كان في هذه المؤسسة لم يكن ليلق به أن يتكلم كلاما كهذا، لأنه لا يصح منهجا ولا علما، إنما هو محاولة لتمييع القضية، وإزالة ما يعترضها من الحواجز لتتم، ولكي يتخلى الناس عن عربيتهم وهم يحسبون أنهم متمسكون بها.

ثم إن حصر العربية في مجال الدين -كما أشار لويس ومن هم على شاكلته- لا يعني بالضرورة أنها خاصة بجانب العبادات، فهذا مفهوم خاطئ لأن مفهوم الدين في الإسلام، ليس هو ما يُفهم من غيره، ولذلك يذهب بنا كاتبنا في مقال يتلوه مقال إلى تعريفنا بهذا المصطلح؛ "الدين".

بحثه في الدين:

في المقالين اللذين خُصِّصا للحديث عن مصطلح الدين ومفهومه في عقيدة الإسلام، برع شاكر مرة أخرى في جمع الأدلة ثم استقرائها تحليلا وتفكيكا، كما فعل في مؤلفه عن الإعجاز حين استقصى في طلب معنى هذه الكلمة وتطورها في التراث، كذلك فعل مع مصطلح الدين المشترك معنويا بين مفاهيم كثيرة، وأهمها ذلك المفهوم الشامل الذي لا يختص بالعبادة وحدها، وإنما يشتمل كل الحياة بمعاملاتها وأحكامها...

ومن الفروق التي تستخلص من هذه النقطة بالذات، مسألة الرهبانية التي ثارت ضدها أوربا، والتي حاول المستشرقون من أمثال عوض وغيره أن يسقطوا آثارها على الإسلام، فادعوا أن العربية القديمة تمنع المسلمين من فهم دينهم، لأنهم لا يملكون معرفة بها، وهذا ينتج عنه -في ظنهم- أن العامية هي الأنجع لإشاعة الدين، فتخيل قرآنا بالعامية؟!

ولا يتذكر هؤلاء أن الواقع التاريخي للكنيسة مختلف تمام الاختلاف عن واقع المؤسسة الدينية في الإسلام؛ إن تعاليم المسيحية تنحصر في إعطاء ما لله لله، وما لقيصر لقيصر، غير أن الإسلام منهج حياة شامل بين عباداتها ومعاملاتها، إلا أن هذا المفهوم لا يبدو جليا في نصوص القرآن إلا بعد هجرة النبي rإلى المدينة المنورة، ولذلك يستعرض أبو فهر لقارئيه لفظة الدين في النصوص القرآنية، مراعيا في ذلك ترتيب النزول، فإنها دلت في أول الأمر على خالص العقيدة لله، ثم تحولت في آخر آيةٍ؛ )ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ( إلى منهج حياة شامل.

محمود شاكر؛ رجعي؟! 

ما تتميز به طريقة التأليف لدى كاتبنا، هو أنه لا يفوته شيء من المصطلحات التي تؤدى على نحو محدد، فلا يتركها حتى يبحث في معناها وتطوره عبر التاريخ، ومن ذلك كلمة "رجعي" التي وصف بها عند معسكر التبشيري لويس عوض، والتي رأى أنها بديل مشوه لكلمة "سلفي"، التي تعني الارتباط بالسلف الذي يمثله القرآن وكل الحضارة الإسلامية والعربية القويمة، إلى أن اتخذها سلامة موسى وغيره، بنبر فيه كيد، يراد منه تشويه الكلمة حتى تم استبدالها بكلمة "رجعي"، التي عنت المتمسكين بهويتهم، ورغم أنها كانت تعني في ظروف محددة: "الدولة المتزمتة"، إلا أن المراد التبشيري كان أثبت.

     وقفة معاصرة:                                

ولنا ههنا وقفة مع هذا الموقف، اذي مثله أشخاص أقرب هوية إلى محمود محمد شاكر، وأبعد من لويس عوض -أو كان يظن بهم ذلك- غير أنهم تنكروا لأبي فهر ووصفوه بالرجعية والتخلف لمجرد أن عوض هو المستشار العام لجريدة معروفة لها وزنها في الصحافة، وفي أوساط المثقفين.

هذا الموقف، يعيدنا إلى ما حصل منذ مدة بين شيخ الأزهر، ورئيس جامعة القاهرة، إذ كشف الشيخ أحمد الطيب أخطاء الرئيس المعرفية في محاضراته عن التجديد ورفض التراث، وإذا بالعالم كله ينقلب ضده، لمجرد تصحيحه مفاهيم محرفة عند هؤلاء العلمانيين، وهاجموا الشيخ واتهموه بالرجعية، وبغيرها من النعوت التي تُعرف معانيها اليوم.

وهذا الموقف أيضا، يجعلنا نطرح سؤالا هو: كيف نعود بهؤلاء إلى التراث الصحيح؟ بدون أن يروا فينا رجعية صماء؟

ولهذا السؤال الإشكالي أسئلة افتراضية، أهمها: هل يمكن أن يكون الحل في الأنظمة السياسية التي تلعب دور البعيد عن هذه السجالات، وهي في حقيقة الأمر الباعث الوحيد لها، لفائدتين:

أولهما: شغل الناس بهذه السجالات عن مقاصدهم الحقيقية كمقصد العدالة والكرامة وغيرها.

وثانيهما: هدم النموذج الذي يركن إليه الشعوب، وهو الدين، وزعزعة مفاهيمه في أذهانهم بما يعرض اليوم من تمويهات وتحريفات يتبناها بوضوح، أدعياء التنوير والعلمانية المعاصرة، وتتولى الإشراف عليها أنظمتنا، من بعيد.

هذه الموضوعات التي ملأت كتاب "أباطيل وأسمار"، كانت في ظاهرها موضوعات مشعثة متفرقة، غير أن شاكر رحمه الله استطاع أن ينظمها في سلك واحد هو مفهوم التبشير؛ إنها كلها دعاوى تبشيرية، وإذا كان ذلك كذلك، فبنا أن ننظر ماهية التبشير وكنهه، في رأي كاتبنا.

التبشير ليس دعوة إلى النصرانية:

الذي يظن أن الحملات التبشيرية التي غزت العالم عامة، والوطن الإسلامي خاصة، مجرد حملات دعوية إلى اعتناق المسيحية، فهو لا يعدو كونه مغفلا، فالتبشير لم يكن في يوم من الأيام مجرد دعوة إلى المسيحية، بل هو حملات استشراقية الغرض منها تشويه منهج تفكير، بل إسقاط حضارة كاملة من عقول المسلمين، واستبدال مسوخ وتشوهات بها، ليتسنى للغرب التحكم في هذه الشعوب، وهذا جلي في التاريخ؛ فإن الاستعمار الذي أخضع تلك الشعوب لم يكن عسكريا، بل كان فكريا قبل كل شيء، وفي هذا ندع أبا فهر يستقرئ لنا هذا التاريخ بأسلوبه المختصر الفني إذ يقول: "ولكن كانت تجارب الحروب الصليبية القديمة، وحروب آل عثمان من الترك، قد دلّت دلالة قاطعة على أن مواجهة العالم الإسلامي بالانقضاض المسلح، لا تجدي إلا انبعاث قوة متماسكة شديدة البأس والخطر، خليقة أن تسترد شبابها، مهما كان في كيانها من العيوب، وسرعان ما تلم شعثها إلى معركة فاصلة كسائر المعارك الأولى التي ردت غزاة الصليبية على أعقابهم، فكان من الحكمة إذن، تجنب المواجهة، وكان من حسن التدبير واتقاء العواقب، أن تدور هذه القوة الجديدة الأوربية من حول العالم الإسلامي، تتنقّصه من أطرافه البعيدة، بمهارة وحذر، حتى لا يرتاع قلب هذا العالم الغافل (يعني العالم الإسلامي ، وانظر إلى إيحائه رحمه الله)، فينفض التراب عن ثيابه، ويمسح النوم عن وجهه، ودبت أوربة دبيبا حول هذا العالم، وجعلت تطوّق شواطئ القارة الإفريقية من الغرب إلى أن بلغت شواطئ الهند، طوّقته يومئذ بطوق من الثغور تحتلها، ثم تنفذ من كل ثغر إلى بدن العالم الإسلامي، شيئا فشيئا، على حذر شديد، وبلا ضجيج يزعج، نعم، كان هذا غزوا ولكنه غزو خفي الوطء ... كان غزوا أقل ما فيه نكاية هو الجيوش، وأبلغه افتراسا هو التجارة، وأفتكه بالإنسان هو التبشير، وهذه الصورة، لا يكاد يخطئها من كان له أدنى إلمام بتاريخ الغزو الأوربي المسيحي للعالم الإسلامي". (أباطيل وأسمار؛ ص: 149).

أني لي أن أبلغ كل ما في الكتاب، فهو بحر لا شواطئ يرسى عليها، ولا عمق يمكن أن يُخلص إليه، ربما يكفي أني جمعت شيئا مما فيه من الصدفات والكنوز الغائرة فيه، وفي هذا كفاية، وعلى المهتم أن يعود إليه، فليس من رأى كمن سمع، ورحم الله أبا فهر، وجعل كتاباته شفيعا له يوم يعز الشفعاء، لا نزكيه على الله، لكن نحكم بظاهر ما ألف، وبمشاعره التي كانت بيّنة جليّة، وفيها من الأنفة والغيرة على دين الله ما لا يخفى، والحمد لله رب العالمين.

 

تمت القراءة في: 5 محرم 1442ه/ 24 أوت 2020.

السبت، 11 أبريل 2020

نمط صعب ونمط مخيف

قراءة موجزة في كتاب:
"نمط صعب ونمط مخيف" لأبي فهر محمود محمد شاكر
بقلم: طارق عاشوري

مقدمة:
كتاب وأي كتاب؟ بل كاتب وأي كاتب؟ لم يُثنِه شيء طيلة حياته عن أن يكتب في قضيته الأولى والأخيرة، وهي: "الشعر الجاهلي"، ولم يرهبه انتشار المزاعم التي كثرت حولها من لدن أستاذه طه حسين وعلى مدى عقود طويلة، فيقعد عنها، ويسكت، ويلقي قلمه لأنها غلبته، وقد فعل هذا حقبة ثم استمر في كفاحه، وكان هذا الكتاب جزءا من مسيرةٍ تتسم بالصمود..
نمط صعب ونمط مخيف..
كتاب بدأت قراءته منذ بضع سنين، ثم ألقيته جانبا بحكم انشغالات الدراسة والعمل، لكني عدت إليه في أيامنا هذه أملؤها وأشغل نفسي بقراءته، وقد كنت من قبل قرأت كتابه عن المتنبي، الذي مهد له برسالة في الطريق إلى ثقافتنا، وأذهلني فيه هذا الرجل، لا يستكين، ولا يهدأ لحظة، تحسه في كلماته مربيا، ومقاوما، ثم أديبا بارعا..
وقد بدأت قراءة نمطه الصعب، فلم تكن عيني لترتاح قبل إنهاء كلماته كلها، ولأن بعض الأصدقاء طلبوا أن أنقل لهم شيئا منه، فلهم ما طلبوا في كلمات موجزة، ولكني أشير إلى أن السماع وإن بلغ مداه، فما يبلغ درجة المعاينة، وقد قالوا قديما: ليس من رأى كمن سمع، وهذا تلخيصي أبدؤه بالموضوع.
1.    موضوع الكتاب:
أبسط ما قد يقال في هذا الكتاب أنه عمل في تذوق الشعر عامة، وهو في حقيقة أمره إجابة لطلب أحد رفقاء محمود شاكر، وهو يحيى حقي الذي اطلع إلى عمل أحد شعراء ألمانيا في إحدى القصائد الجاهلية؛ وذلك جوته الذي عرض بعد قراءته، وترجمتها إلى قضية كانت في ذلك الوقت حديث العصر، ألا وهي وحدة القصيدة واختلال الترتيب في قصائد الجاهلية، وهو أمر يحتار شاكر في نشوءه بين أوساط النقاد تأثرا بالغرب.
القصيدة موضوع الدراسة، هي التي مطلعها:
إن بالشعب الذي دون سلع          لقتيلا دمه ما يُطَلّ
وهي قصيدةأبدى جوته إعجابه ببنيتها الشعرية، غير أنه اقترح إعادة ترتيب أبيات فيها، مما جعل يحيى حقي يظن أنه يشير إلى اختلالها، وإلى انعدام الوحدة العضوية، وتبعا لما فهمه، كان طلبه من أبي فهر محمود شاكر أن يطلع إليها ويقدم رؤيته حول القصيدة وما قيل عنها، مع رجائه بالإعلان عن منهجه المتبع في دراسة الشعر الجاهلي أو الشعر عموما..
ولا يخفى على أحد من قرّاء أعمال محمود شاكر، قصته مع الدعاوى التي طالت الشعر الجاهله وهذا منذ حداثة سنه، فكان هذا الطلب بمثابة ميلاد جديد لتلك الدعاوى -كما يقول هو نفسه- أعادت له حالة الانفعال الذي بدا جليا في مقالته الأولى والتي أتبعها بمقالات أخرى، وكلها نشرت في مجلة المجلة بين عامي 1969م و 1970م وتعدادها سبع مقالات جمعت فيما بعد في هذا الكتاب.
2.   أقسام الكتاب ومنهج التذوق:
ولكي يجيب شاكر طلب صديقه، كان لزاما عليه من نفسه الإجابة عن أشياء عديدة قبل الدخول في ترتيب أبيات القصيدة وأثناءها، ولهذا جاءت مقالاته السبعة ذات موضوعات تبدو في ظاهرها متفرقة، غير أن من يقرأ الكتاب سيجد ارتباطها وثيقا..
المقالة الأولى: كانت مقدمة أو مدخلا منهجيا لدراسة القصيدة، عرض فيها شاكر أصول رواية الشعر العربي، وما يعرض فيها من نقائص ومشكلات تخص طبيعة الرواية القائمة على المشافهة، ثم قضية أخرى وهي انتحال الشعر التي كان أول المشيرين إليها في قالب علمي موضوعي: ابن سلام الجمحي  في كتابه طبقات فحول الشعراء (وقد حقق شاكر هذا الكتاب)، والرائع في هذا الجزء أن أبا فهر لم يكن متعصبا وفقا لانفعاله الظاهر في أسلوبه، بل كان يطرح هذه القضايا باعتدال موضوعي شديد، فإنه عرّف القارئ أن المشافهة وعموم الرواية العربية القديمة كان لها نقائص وآثار على الشعر العربي عموما، ومن أبرز آثارها الانتحال بأنواعه، (وههنا يلزم القارئ بالتفريق بينها)، ثم من آثارها الواضحة اختلال الترتيب في أبيات القصائد، فتكون الروايات فيها مختلفة في عدد أبياتها ثم ترتيبها مع الإشارة إلى أن هذا لم يكن هو الشائع؛ وهذه نقطة ينبغي إعمالها في الذهن. وقد دخل من ههنا إلى مسألة رواية القصيدة وعرض رواتها وتمحيص ما جاء عنهم، إلى أن اختار رواية أبي تمام في ترتيبه أبيات القصيدة لأسس مقنعة، وقبل ذلك كله عرض مشكلة نسبة القصيدة، وقد توصل إلى نتيجة هي أن هذه القصيدة لابن أخت تأبط شرا قالها بعد مقتل خاله.
المقالة الثانية: كان فيها إتمام لموضوع المقالة الأولى، ثم الانتقال إلى موضوع آخر، وهو دراسة العروض، وههنا بانت عبقرية أبي فهر، الذي حاول أن يأتي بجديد في عروض الخليل، بل إنه حاول أن يحيى الخليل رحمه الله لينظر ما كان قصده من تأسيس هذا العلم الذي لم يفهمه من بعده كما كان يريد له، واجتاز من هذا إلى بحر المديد أصعب البحور وأشدها (ومن هنا جاءت كلمة نمط صعب)، وقد توصل إلى أنه بحر لا ينقاد إلا للذي يزن شعره بميزان دقيق، فلا يستعمل فيه إلا الألفاظ القليلة التي تتفجر عن معان واسعة غزيرة، ولا يتسع إلا للمشاعر المعتدلة..
المقالة الثالثة والرابعة والخامسة: كان هذا الجزء من الكتاب تطبيقا عمليا لمنهج أبي فهر في تذوق الشعر القديم، ليس هذا فحسب، بل في التأكد من الروايات والتعامل معها، ومع شروح القدامى، بدأه بعرض موجز للقصيدةبتبيين أسس على القارئ أن يستحضرها في كل الكتاب، وهي:
-       التفريق بين الأزمنة الشعرية الثلاثة: زمن الحدث، وزمن التغني، وزمن النفس؛ يقصد بالأول الزمن الواقعي الذي يحدث فيثير الشاعر إثارة كافية ينتج عنها تغنيه بما تفيضه نفسه المتأثرة، غير أن هذا التغني يُتدارك فيما بعد لتُرتَّب الأبيات التي تغنى بها ترتيبا الشاعر أدرى به، وهذا الترتيب هو زمن النفس، وهو الذي ينتج الشكل النهائي لهذه القصيدة، ومن هنا يلاحظ ابو فهر أن القصيدة كان فيها إعادة ترتيب للأبيات المتغنى بها في فترات منفصلة، مما ولّد ما أطلق عليه "التشعيث" الذي أحس به جوته من نفسه الشاعرة وهو غير اختلال الترتيب.
-       تمحيص الشروح اللغوية والنحوية: يرفض شاكر أن يكون ناقد الشعر مقتصرا في تذوقه على ما يقوله الشراح، لأنهم في عمومهم علماء لغة ونحو، فشروحهم شروح علمية محضة، فلذلك وجب على الناقد أن يتغلغل إلى صميم نفس الشاعر، وإلى بنية القصيدة ليستخرج المعنى الحقيقي لا المعنى اللغوي السطحي.
3.   شيء من النتائج في المقالتين السادسة والسابعة:
لقد توصل محمود محمد شاكر من هذا المنهج إلى مجموعة من النتائج عرضها في المقالتين الأخيرتين، منها:
-       ضرورة عدّ الشك وسيلة لا هدفا، وهو خطأ كان فيه خلط طه حسين في قضيته التي أثارها حين قدم الشك وجعله هدفا، وجعل المنهج من أجله.
-       القول بانعدام الوحدة في القصيدة الجاهلية خاصة، والقديمة عموما قول باطل، والقصيدة التي حللها فيها من الترابط ما أذهل جوته نفسه، وإنما رأيه في ترتيب بعض الأبيات يعود إلى عوامل هي سوء ترجمة القصيدة، كما أنه أحس بجمالية التشعيث وترابط الأبيات برغم ذلك، وهذا يكفي.
-       وجوب إعادة النظر في كثير من قضايا الشعر الجاهلي، ووجوب العودة إلى القراءة التذوقية وجعلها مقياسا أول في الحكم على القصيدة وجماليتها ومدى ترابطها.
4.   عن أسلوب أبي فهر:
كعادته في مؤلفاته، ستجده يجذبك بأسلوبه العتيق الذي لا تستطيع له إلا أن تذعن وتمضي في الاستمتاع بشيء من العصور الماضية، ولا سيما إذا كان ديدنه إدخال كم هائل من الأبيات والأقوال والنوادر العربية، لا يحشو بها كلامه وإنما يبني عليها وبها وكأنها من كلامه، وكم مرة كنت أجد نفسي مرغما على إعادة صفحات كثيرة من كثرة استمتاعي بما يكتب...
لن أستفيض أكثر في الحديث عن هذا السِّفر الذي وإن توسط عدد صفحاته إلا أنه مغنٍ  في موضوعه وفي موضوعات أخرى، ومهما جهدت نفسي لأوصل عنه فكرة مما استفدته فلن يكون كإمساكك الكتاب بنفسك، وتتبع حروفه وكلماته إلى آخرها، فليس من رأى كمن سمع..
والحمد لله رب العالمين
تمت القراءة في يوم السبت: 17 شعبان 1441هـ/  11 أبريل 2020 

الأربعاء، 25 مارس 2020

الفراغ في الحجر الصحي

روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:(( نِعْمتَانِ مغبونلٌ فيهِما كثيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ. )). [رواه البخاري (6412)].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مع نزول هذه النازلة الرهيبة، والطارئة العجيبة التي حلت بالعالم أجمع، تسارع الناس في كل مصرٍ، فزعين مذهولين إلى الوهم، فهم في ذلك كجلمود جرفته السيول؛ فلا هو يقف في المنحدر، ولا هو يختار الموقع الذي سيقع عليه، ومع انحداره وانجرافه يتصاعد صوت تقلّبه كلما اقترب من السفح. وفي انحداره يمر على حصيّات تنحدر في اتجاهه إلا أن سرعتها أقل وضجيجها أخفت تحسب حين تراه أنه الوحيد الذي ينزلق، وأنه وحده الذي لا يملك لنفسه شيئا.
الشعوب العربية والإسلامية اليوم تنزل نفسها منزل الحصى، فكثرت سخرياتها وفساد طبعها، وأصبحت حالتها داعية إلى الوقوف قليلا للتأمل والاعتبار، فما محل هذه الشعوب أو أكثرها من الإعراب؟
وقد قدمت بالحديث المروي في صحيح البخاري، لأن النعمتين هما مناط الحديث ههنا، ولأبدأ بأولاهما وهي الصحة؛ الصحة نعمة حقيقية مغبون فيها كثير من الناس، وأكثرهم نحن المسلمين، لنا أن نتساءل عن الأيام بل الأشهر بل السنوات التي ضاعت من عمر هذه الأمة الموعودة بالنصر، كيف ضاعت فيما لا يغني شيئا؟ سنوات طوال كنا فيها غثاء كغثاء السيل، تتقاذفنا الأمواج كما تشاء، أقول كنا، وأخشى أننا لازلنا، حتى إذا أدركنا هذا الوباء، أصبحنا نتقلب يتخطفنا من كل جانب، ولا ندري كيف السبيل إلى العودة والرجوع...
والثانية الفراغ؛ وأي فراغ رهيب عشناه على مدى العقود السابقة، فما استثمرناه، بل كنا نبحث عنه لنزيده وقتا، حتى إذا دهمنا أمر كنا آخر من ينهض، ننتظر فضل الأمم وبقاياها نلعقه بعدها، ثم أكرمنا الله في هذه المنحة بنعمة الفراغ واضحة صافية، فبرز في استغلالها أناسي وأي استغلال؟ تفاهات وحماقات، فلا تخطيط ولا استشراف.
لا أزعم أني خارج هذا الجمع، بل أقر إنني منه نسبا وعملا، ولذلك كانت هذه الفرصة أكتب فيها لأحث نفسي، ولأحث إخواني على حسن التعامل مع النعمة التي وهبنا الله إياها في طيات المحنة الطارئة، وذلك في عناصر أحصيها أمثل بها لا أحصر:
1. نفض الغبار عن القلوب فرمضان على الأبواب، فهل لنا أن ندرك أرواحنا وقلوبنا لنجهزها لروحانية الشهر الفضيل؟
2. طول الوقت نعمة لمن أراد أن يحصّل العلم، فيطالع من الكتب التي لم يتسن له بعد النظر فيها إن كانت لديه مكتبة، أو يحمّل بعضا من الكتب على الشابكة فيحصل له من ذلك فضل علم، وتصويب أخطاء، ومن ذلك مثلا قراءة صفحة من القرآن أو نصف صفحة، ثم إتباعها بتفسير من التفاسير الخفيفة السهلة.
3. لمن لا يطيق القراءة أمامه فرصة للاستماع إلى المشائخ والمواعظ ودروس الفقه أو التاريخ، أو غيرها من الاهتمامات.
4. للجمعيات الخيرية وغيرها أن تنظم من الآن برنامجا لإعانة الفقراء والعالة الذين سيتضررون حتما من هذه الجائحة فيتولون إعانتها مع المجتمع كله، لأن الوقت الذي نحن فيه وقت رقة القلوب.
5. لنا فرصة في التربية مع أولادنا في البيت فلا نضيعها في اللهو، فاستثمروها في التنشئة، وتعليم الأبناء بعضا من دروس هذه النازلة، والاعتناء بسلوكاتهم وتصرفاتهم وتقويمها.
لن أطيل فلكل واحد ما يضيفه إلى هذا الكلام، ولا أزعم أني أقف بين أيدي إخواني واعظا، فإن وُجِدَ من يحتاج الوعظ، فأنا أولهم، ولكني كما أسلفت، أردت أن أقف مع نفسي فأنصحها وأنصح إخواني فلا يكونوا من المغبونين وعندهم الصحة والفراغ، أكبر نعمتين نهملهما. والحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
طارق عاشوري

الأحد، 28 يوليو 2019

كلمات في الرد على الباحث الفلكي

   بسم الله الرحمن الرحيم ثم الصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وبعد
فلقد طلع منذ أيام إنسان كنا نحسبه عالما أو باحثا في علم الفلك، لكنه سرعان ما أصبح مفتيا في دين الله بالفلك كلفا بما يعلمه في مجاله؛ وذلك أنه زعم في برامج مصورة أن الجزائريين مخدوعون بتوقيت صلاة الصبح، فإنهم لا يصلونها في وقتها منذ كيت وكيت، وأن إمساكهم عن الطعام والشراب مبكر جدا، والفرق بين توقيتهم وما يجب أن يكون هو قرابة أربعين دقيقة، وحجته في ذلك أن الصبح حين يُصلى فيجب أن يكون النهار طالعا ضوؤه واضحا نوره، وليس كما يحدث لنا فإننا نصلي الصبح ونخرج ولا يزال الظلام دامسا.
وللإجابة على هذه الدعاوى جمعت بعض الأحاديث من الموطأ، لكي أبين أن زعم هذا الزاعم مردود عليه، فهو مبني على أغاليط أهمها أنه يوهم الناس أن الصبح لا يحين إلا بعد انقشاع الضوء، وهذه الأغاليط سيصدقها العامة ممن لا يفقهون أمر دينهم.
وأبدأ بعرض الأحاديث التي في الموطأ ليعرف هذا ومن يوافقه أول وقت الصبح:
1.       عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي الصبح، فينصرف النساء متلفعات بمروطهن، ما يُعرَفن من الغلس.

2.      أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى: ... وصلِّ الصبح والنجوم بادية مشتبكة، واقرأ فيها بسورتين طويلتين من المفصل.

3.      في حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: وصلِّ الصبح بغبش، يعني الغلس.

بعد عرض الأحاديث نشرح كلمة الغبش والغلس وهما كلمتان تكررتا في حديثين فما معناهما؟
ولننظر في لسان العرب فإن هذه عربية كان يتكلم بها الفصحاء؛ يقول ابن منظور: "الغبش شدة  الظلمة، وقيل: هو بقية الليل وقيل ظلمة آخر الليل". وقال في معنى الغلس: "الغلس ظلام آخر الليل".
فلا شك أن صلاة الصبح يكون وقتها الاختياري من وقت الظلمة، وقد رأينا في الأحاديث أن عمر قال: وصلّ الصبح والنجوم بادية مشتبكة، وليست هذه الصفات في النجوم إذا بان الضوء.
ثم انظروا يرحمكم الله إلى كلام أم المؤمنين وهي تصف انصراف المصلين من الصبح ، فإن انصرافهم كان بليل حتى لم يُعرف النساء، ولو كانوا ينصرفون والضوء باد ما قالت هذا الكلام.
وتبعا لما وصفته أم المؤمنين فإن قراءة المصلين لم تكن بالسريعة كما هو الأمر في أيامنا، فإنهم كانوا يقرؤون بطوال المفصل كما أمر عمر بن الخطاب، وقراءة ذلك الجيل من الصحابة قراءة تأنٍ وتدبر وخشوع، ومع ذلك ينصرفون ولا يزال الغلس، ولا يزال الظلام.
هذا لا يعني أن وقت الصبح لا يتسع إلى حين انتشار الضوء، لكنه لا يعني أننا مخطئون في صلواتنا وصيامنا.
ومن هنا أقول لهذا المجترئ على دين الله: عليك بتقوى الله وتعلم دينه من الكتاب والسنة وكتب الفقهاء، لا من الفلك، فهذا دين بينه الله                                          ..طارق عاشوري/ 22 ماي 2018م..           

الأربعاء، 3 أكتوبر 2018

من مبلغ الحيين أن مهلهلا !!!


لا شك أن كُلَّ من تابع مسلسل الزير سالم -وما أكثرهم- يتذكرون آخر اللقطات منه، تلك التي تحكي مقتله على أيدي عبدين فاستوقفهما بعد أن عرف كيدهما، وطلب منه تحقيق رغبة أخيرة لميت، وهي أن يوصلا لأهله بيتا من الشعر:          
من مبلغ الحيين أن مهلهلا
 ~~~ أضحى قتيلا في الفلاة مجندلا 
فكان فيه هلاكهما فيما بعد؛ وذلك حين فسرته اليمامة بنت أخيه فإذا هو صدرا بيتين:
من مبلغ الحيين أن مهلهلا ~~~ أضحى قتيلا في الفلاة مجندلا
لله دركما ودر أبيكما ~~~ لا يبرح العبدان حتى يقتلا
وهما بيتان توقفت عندهما كثيرا وبحثت عنهما في ديوان المهلهل فلم أجدهما، ولم أجد أحدا من العلماء رواهما للمهلهل، إلا المسلسل ، إلى أن وقعت عيني مرة -وأنا أقرأ كتاب الشعر والشعراء لابن قتيبة- على أبيات تشبههما لكنها ليست للمهلهل وإنما للمرقش الأكبر يقول فيها:
يا راكبا إما عرضتَ فبلِّغنْ ~~~ أنس بن عمرو حيث كان وحرملا
لله درّكما ودرّ أبيكما ~~~ إن أفلت الغُفليُّ حتى يقتلا
من مبلغ الفتيان أن مرقّشا ~~~ أضحى على الأصحاب عبئا مثقلا
ذهب السباع بأنفه وتركنه ~~~ ينهسن منه في الفقار مجدّلا
وكأنما ترد السّباع بشِلوِه ~~~ إذ غاب جمع بني ضُبيعة منهلا

قال ابن قتيبة عن المرقش: "وهو أحد عشاق العرب المشهورين بذلك، وصاحبته أسماء بنت عوف بن مالك ... وكان أبوها زوّجها رجلا من مراد، والمرقش غائب، فلما رجع أخبر بذلك فخرج يريدها ومعه عسيف له من غفيلة، فلما صار في بعض الطريق مرض، حتى ما يحمل إلا معروضا، فتركه الغفيلي هناك في غار وانصرف إلى أهله، فخبرهم أنه مات، فأخذوه وضربوه حتى أقر فقتلوه، ويقال إن أسماء وقفت على أمره فبعثت إليه فحمل إليها وقد أكلت السباع أنفه (فقال الأبيات)، ويقال: بل كتب هذه الأبيات على خشب الرحل، وكان يكتب بالحميرية، فقرأها قومه، فلذلك ضربوا الغفيلي حتى أقر". (الشعر والشعراء، تحقيق: أحمد محمد شاكر، ج1، ص: 186- 187.
...........
..طارق..














الجمعة، 10 أغسطس 2018

مدونة كوكب الصبح / أ. طارق عاشوري

مدونة كوكب الصبح / أ. طارق عاشوري
- قراءات في كتب ومجلدات تراثية
- بحث في قضايا لغوية، أدبية، نقدية، فكرية