قراءة موجزة في كتاب:
"نمط صعب ونمط مخيف"
لأبي فهر محمود محمد شاكر
مقدمة:
كتاب وأي كتاب؟ بل كاتب وأي كاتب؟ لم يُثنِه شيء طيلة
حياته عن أن يكتب في قضيته الأولى والأخيرة، وهي: "الشعر الجاهلي"، ولم
يرهبه انتشار المزاعم التي كثرت حولها من لدن أستاذه طه حسين وعلى مدى عقود طويلة،
فيقعد عنها، ويسكت، ويلقي قلمه لأنها غلبته، وقد فعل هذا حقبة ثم استمر في كفاحه،
وكان هذا الكتاب جزءا من مسيرةٍ تتسم بالصمود..
نمط صعب ونمط مخيف..
كتاب بدأت قراءته منذ بضع سنين، ثم ألقيته جانبا بحكم
انشغالات الدراسة والعمل، لكني عدت إليه في أيامنا هذه أملؤها وأشغل نفسي بقراءته،
وقد كنت من قبل قرأت كتابه عن المتنبي، الذي مهد له برسالة في الطريق إلى ثقافتنا،
وأذهلني فيه هذا الرجل، لا يستكين، ولا يهدأ لحظة، تحسه في كلماته مربيا، ومقاوما،
ثم أديبا بارعا..
وقد بدأت قراءة نمطه الصعب، فلم تكن عيني لترتاح قبل
إنهاء كلماته كلها، ولأن بعض الأصدقاء طلبوا أن أنقل لهم شيئا منه، فلهم ما طلبوا
في كلمات موجزة، ولكني أشير إلى أن السماع وإن بلغ مداه، فما يبلغ درجة المعاينة،
وقد قالوا قديما: ليس من رأى كمن سمع، وهذا تلخيصي أبدؤه بالموضوع.
1.
موضوع الكتاب:
أبسط ما قد يقال في هذا الكتاب أنه عمل في تذوق الشعر
عامة، وهو في حقيقة أمره إجابة لطلب أحد رفقاء محمود شاكر، وهو يحيى حقي الذي اطلع
إلى عمل أحد شعراء ألمانيا في إحدى القصائد الجاهلية؛ وذلك جوته الذي عرض بعد
قراءته، وترجمتها إلى قضية كانت في ذلك الوقت حديث العصر، ألا وهي وحدة القصيدة
واختلال الترتيب في قصائد الجاهلية، وهو أمر يحتار شاكر في نشوءه بين أوساط النقاد
تأثرا بالغرب.
القصيدة موضوع الدراسة، هي التي مطلعها:
إن بالشعب الذي دون سلع لقتيلا دمه ما يُطَلّ
وهي قصيدةأبدى جوته إعجابه ببنيتها الشعرية، غير أنه
اقترح إعادة ترتيب أبيات فيها، مما جعل يحيى حقي يظن أنه يشير إلى اختلالها، وإلى
انعدام الوحدة العضوية، وتبعا لما فهمه، كان طلبه من أبي فهر محمود شاكر أن يطلع
إليها ويقدم رؤيته حول القصيدة وما قيل عنها، مع رجائه بالإعلان عن منهجه المتبع
في دراسة الشعر الجاهلي أو الشعر عموما..
ولا يخفى على أحد من قرّاء أعمال محمود شاكر، قصته مع
الدعاوى التي طالت الشعر الجاهله وهذا منذ حداثة سنه، فكان هذا الطلب بمثابة ميلاد
جديد لتلك الدعاوى -كما يقول هو نفسه- أعادت له حالة الانفعال الذي بدا جليا في
مقالته الأولى والتي أتبعها بمقالات أخرى، وكلها نشرت في مجلة المجلة بين عامي
1969م و 1970م وتعدادها سبع مقالات جمعت فيما بعد في هذا الكتاب.
2.
أقسام الكتاب ومنهج التذوق:
ولكي يجيب شاكر طلب صديقه، كان لزاما عليه من نفسه
الإجابة عن أشياء عديدة قبل الدخول في ترتيب أبيات القصيدة وأثناءها، ولهذا جاءت
مقالاته السبعة ذات موضوعات تبدو في ظاهرها متفرقة، غير أن من يقرأ الكتاب سيجد
ارتباطها وثيقا..
المقالة الأولى: كانت مقدمة أو مدخلا منهجيا لدراسة القصيدة، عرض فيها
شاكر أصول رواية الشعر العربي، وما يعرض فيها من نقائص ومشكلات تخص طبيعة الرواية
القائمة على المشافهة، ثم قضية أخرى وهي انتحال الشعر التي كان أول المشيرين إليها
في قالب علمي موضوعي: ابن سلام الجمحي في
كتابه طبقات فحول الشعراء (وقد حقق شاكر هذا الكتاب)، والرائع في هذا الجزء أن أبا
فهر لم يكن متعصبا وفقا لانفعاله الظاهر في أسلوبه، بل كان يطرح هذه القضايا
باعتدال موضوعي شديد، فإنه عرّف القارئ أن المشافهة وعموم الرواية العربية القديمة
كان لها نقائص وآثار على الشعر العربي عموما، ومن أبرز آثارها الانتحال بأنواعه،
(وههنا يلزم القارئ بالتفريق بينها)، ثم من آثارها الواضحة اختلال الترتيب في
أبيات القصائد، فتكون الروايات فيها مختلفة في عدد أبياتها ثم ترتيبها مع الإشارة
إلى أن هذا لم يكن هو الشائع؛ وهذه نقطة ينبغي إعمالها في الذهن. وقد دخل من ههنا
إلى مسألة رواية القصيدة وعرض رواتها وتمحيص ما جاء عنهم، إلى أن اختار رواية أبي
تمام في ترتيبه أبيات القصيدة لأسس مقنعة، وقبل ذلك كله عرض مشكلة نسبة القصيدة،
وقد توصل إلى نتيجة هي أن هذه القصيدة لابن أخت تأبط شرا قالها بعد مقتل خاله.
المقالة الثانية: كان فيها إتمام لموضوع المقالة الأولى، ثم الانتقال
إلى موضوع آخر، وهو دراسة العروض، وههنا بانت عبقرية أبي فهر، الذي حاول أن يأتي
بجديد في عروض الخليل، بل إنه حاول أن يحيى الخليل رحمه الله لينظر ما كان قصده من
تأسيس هذا العلم الذي لم يفهمه من بعده كما كان يريد له، واجتاز من هذا إلى بحر
المديد أصعب البحور وأشدها (ومن هنا جاءت كلمة نمط صعب)، وقد توصل إلى أنه بحر لا
ينقاد إلا للذي يزن شعره بميزان دقيق، فلا يستعمل فيه إلا الألفاظ القليلة التي تتفجر
عن معان واسعة غزيرة، ولا يتسع إلا للمشاعر المعتدلة..
المقالة الثالثة والرابعة والخامسة: كان هذا الجزء من الكتاب تطبيقا عمليا لمنهج أبي فهر
في تذوق الشعر القديم، ليس هذا فحسب، بل في التأكد من الروايات والتعامل معها، ومع
شروح القدامى، بدأه بعرض موجز للقصيدةبتبيين أسس على القارئ أن يستحضرها في كل
الكتاب، وهي:
-
التفريق بين الأزمنة الشعرية الثلاثة: زمن الحدث، وزمن
التغني، وزمن النفس؛ يقصد بالأول الزمن الواقعي الذي يحدث فيثير الشاعر إثارة
كافية ينتج عنها تغنيه بما تفيضه نفسه المتأثرة، غير أن هذا التغني يُتدارك فيما
بعد لتُرتَّب الأبيات التي تغنى بها ترتيبا الشاعر أدرى به، وهذا الترتيب هو زمن
النفس، وهو الذي ينتج الشكل النهائي لهذه القصيدة، ومن هنا يلاحظ ابو فهر أن
القصيدة كان فيها إعادة ترتيب للأبيات المتغنى بها في فترات منفصلة، مما ولّد ما
أطلق عليه "التشعيث" الذي أحس به جوته من نفسه الشاعرة وهو غير اختلال
الترتيب.
-
تمحيص الشروح اللغوية والنحوية: يرفض شاكر أن يكون ناقد
الشعر مقتصرا في تذوقه على ما يقوله الشراح، لأنهم في عمومهم علماء لغة ونحو،
فشروحهم شروح علمية محضة، فلذلك وجب على الناقد أن يتغلغل إلى صميم نفس الشاعر،
وإلى بنية القصيدة ليستخرج المعنى الحقيقي لا المعنى اللغوي السطحي.
3.
شيء من النتائج في المقالتين السادسة والسابعة:
لقد توصل محمود محمد شاكر من هذا المنهج إلى مجموعة من
النتائج عرضها في المقالتين الأخيرتين، منها:
-
ضرورة عدّ الشك وسيلة لا هدفا، وهو خطأ كان فيه خلط طه
حسين في قضيته التي أثارها حين قدم الشك وجعله هدفا، وجعل المنهج من أجله.
-
القول بانعدام الوحدة في القصيدة الجاهلية خاصة،
والقديمة عموما قول باطل، والقصيدة التي حللها فيها من الترابط ما أذهل جوته نفسه،
وإنما رأيه في ترتيب بعض الأبيات يعود إلى عوامل هي سوء ترجمة القصيدة، كما أنه
أحس بجمالية التشعيث وترابط الأبيات برغم ذلك، وهذا يكفي.
-
وجوب إعادة النظر في كثير من قضايا الشعر الجاهلي، ووجوب
العودة إلى القراءة التذوقية وجعلها مقياسا أول في الحكم على القصيدة وجماليتها
ومدى ترابطها.
4.
عن أسلوب أبي فهر:
كعادته في مؤلفاته، ستجده يجذبك بأسلوبه العتيق الذي لا
تستطيع له إلا أن تذعن وتمضي في الاستمتاع بشيء من العصور الماضية، ولا سيما إذا
كان ديدنه إدخال كم هائل من الأبيات والأقوال والنوادر العربية، لا يحشو بها كلامه
وإنما يبني عليها وبها وكأنها من كلامه، وكم مرة كنت أجد نفسي مرغما على إعادة
صفحات كثيرة من كثرة استمتاعي بما يكتب...
لن أستفيض أكثر في الحديث عن هذا السِّفر الذي وإن توسط
عدد صفحاته إلا أنه مغنٍ في موضوعه وفي
موضوعات أخرى، ومهما جهدت نفسي لأوصل عنه فكرة مما استفدته فلن يكون كإمساكك
الكتاب بنفسك، وتتبع حروفه وكلماته إلى آخرها، فليس من رأى كمن سمع..
والحمد لله رب العالمين
تمت القراءة في يوم السبت: 17 شعبان 1441هـ/ 11 أبريل 2020