السبت، 29 أغسطس 2020

أباطيل وأسمار

 

قراءة في كتاب: أباطيل وأسمار لأبي فهر؛ محمود محمد شاكر

بقلم: طارق عاشوري



محمود محمد شاكر، قرأت له أول مرة يوم تصفحت تحقيقه على كتاب أسرار البلاغة للجرجاني، وأدهشني أسلوبه الذي استطاع أن يحيلني متعطشا لقراءة كتبه والبحث عنها، فإذا الرجل أكثر من محقق.

ما أثارني فيه منذ أول وهلة، هو وصله كل القضايا التي يشهدها الأدب وعلومه، بالتاريخ القريب والبعيد للعالم العربي عموما، ولمصر خاصة، وكان في ذلك كله يتحدث عن التغريبة التي عانى منها التعليم الابتدائي والثانوي، والتي تولى كبرها المستشرقون الذين لم يهدأ لهم بال، إلا حين أخضعوا فكر العرب والمسلمين لما أطلقوا عليه اسم المنهج، متسترين خلفه ليعكروا صفو الثقافة الإسلامية التي أشرفت على إنتاجها حضارة عمّرت ثلاثة عشر قرنا، بل أكثر.

ومن مقدمة تحقيقه أسرار البلاغة، وجدت نفسي مجبرا على قراءة بع مؤلفاته التي ذكرها في هذه المقدمة، والتي كان منها كتاب المتنبي، الذي قدّم له بعمل وجب أن يوضع نصب أعين كل مثقف يروم الإحاطة بتاريخ النهضة العربية الحديثة، وما سبقها من مكر لطيور الظلام التي لم تزل تصارع في خفاء، وتدبر بدهاء، ما من شأنه أن يعيد هذه الأمة إلى جهلها وأميتها التي كانت قبل نبوغها وتفوقها بالدين المبارك، وذلك هو "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا"، الذي كان أبرز أفكاره أن الغرب الذي حاربنا قرونا طوالا، أدرك أن التفوق العسكري ليس حلا لهزيمة هذه الأمة، فإنها كانت تنتصر  في كل محاولة يحاولها -رغم تقدم تجهيزاته- بل الحل هو الدخول في ثقافتها التي تجمع عقيدتها وطريقة تفكير أفرادها، وليس من حل إلا استهداف الأجيال الناشئة، والمصيَدة هي هنا مناهج التعليم التي نجحت فيما بعد فيما كان يُخطط له.

وفي "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا" يوغل أبو فهر رحمه الله في بيان القضية التي زلزلت العرب آنذاك، وهي قضية الشعر الجاهلي التي كان طه حسين مذيعها في كتابه "الشعر الجاهلي"، وكيف سقطت على فكر محمود شاكر مصيبةً لأنه كان حينئذ تلميذا لطه في الجامعة، ثم خرج منها -كما يتابع في "مداخل إعجاز القرآن"- بمنهج كان مرافقه فيما بعد، وهو التذوّق، وبالتذوّق نجد شاكرا يتابع سيرة المتنبي، وبه يواصل تحقيقاته في نسبه وتنبُّئه وحبه خولة أخت سيف الدولة الحمداني...

وهو في أثناء كلامه في الرسالة، يحيل قارئه إلى مسائل في كتاب آخر، لم أكن أمتلكه بعد في ذلك الوقت، وهو الذي أريد الحديث عنه في هذه القراءة السريعة، وهو وإن أعطاك في رسالة الثقافة تاريخا سريعا تتوالى أحداثه دون توقف، إلا حين تصل إلى مأساة الشعر الجاهلي، وما تلاها من مآس، منها ما كُتب عن المتنبي، الذي لم يدّعوا عيبا إلا ألصقوه به، إضافة إلى كونه -في رأيهم- كان متملقا (أو ما أسماه أحدهم في هذا العصر شحاذة)، فإنه في هذا الكتاب يعطيك صورا ثابتة أحيانا، ومتحركة ببطء أحيانا أخرى، يستعرض فيها دمى التبشير التي عاصرته أو سبقته بمدة قصيرة، وهي تعيث في أرض الأدب واللغة فسادا، حتى أضحى معلوما لمن يسمعهم أن ترهاتهم لا تعدو أن تكون أباطيل مزعومة ، وأسمار سكارى لا يعلمون ما يقولون ولا ما يفعلون.

موضوع الكتاب:

حين تصفحت كتاب أباطيل وأسمار، أول مرة في المكتبة، نظرت في فهرسته، فإذا بي أجد أسماء ليست التي اعتدتها في نمطه الصعب، ولا في مداخل الإعجاز، ولا في غير ذلك من تحقيقاته، لم أر غير أسماء شخوص من العصر الحديث، وإذا أكثرهم ذكرا: "لويس عوض"، وبدأت تصفحه، غير أني وقفت بعد مقالات ثلاثة، وإذا بالحديث كله عن المعري أبي العلاء، وعن ترجمته التي استقاها عوض --زعما- من كتاب طه حسين "مع أبي العلاء".

ما جذبني في هذه المقالات الفاتحة للكتاب، أسلوب أبي فهر الساخر، الذي لم أره في غير ذلك من المؤلفات، لم يسخر من طه حسين حتى حين اتهمه بسرقة مادة كتابه المتنبي، ولم يسخر ممن نفى الوحدة من قصيدة رثاء تأبط شرا في كتاب "نمط صعب ونمط مخيف"، كما سخر من لويس عوض، غير أن مشاغل أجبرتني على إعادة الكتاب إلى مكانه من رفوف مكتبتي مع إخوانه.

وعدت إليه مرة أخرى، عدت لأقرأ -فيما أظن- عن أبي العلاء المعري وترجمته التي شوهها لويس هذا، وأعدت القراءة.

أباطيل وأسمار من لويس عوض، أن يحاول قراءة شيء من التراث، وهو بذلك يرتكب أخطاء منهجية مع أنه أذاع بين الناس وأشاع، بأن ما جاء به منهج علمي في البحث والتدقيق (تماما كما فعل طه حسين في عاصفة الشعر الجاهلي)، وهذا أمر جعل شاكر يقلب منهجه رأسا على عقب، ويصل إلى نتائج كان أهمها أن لويس هذا دعيّ لا علاقة له بما يكتب من أباطيل عن أبي العلاء المعري، وليس بحثه هذا من المنهج العلمي في شيء.

والقارئ أعمال أبي فهر، سيجد أن كلمة المنهج من أشد الكلمات وقعا في نفسه، إذ إنها تكاد تخنقه متى سمعها، لأنها قناع يأتي فيه رائدو التجديد الذين يكثرون يوما بعد يوم في أوساطنا المثقفة، إنها سلاح أقوى ضررا من قنبلة هيدروجينية، وأكثر خبثا من ذرائع الاستعمار الذي غزا أرض الإسلام فلم يستطع أن يفعل بها ما فعلته كلمة "منهج".

وفي خضم الترهات التي ملأ بها لويس عوض أعمدة كثيرة من صفحات جريدة الأهرام، يقف شاكر ليقول كلمته، وقد استطاع بمنهج دقيق وعر، أن يستخلص شخصية هذا المتطلع إلى تاريخ وحضارة العرب والمسلمين، وهو في ذلك يورد كلامه، وما وقع فيه من الهذيان، فكان نتاج ذلك أنه خبل يكتب، وليس إنسانا يكتب خبلا، ومن ذلك ما ظنه من شعر أبي العلاء، وصفا لحلب والصلبان تغص بها، فإذا هو الصليان بالياء، وإذ الأبيات في وصف نوق ترعى هذا النبات.

ثم يجوب بنا شاكر فيافي عبقرية لويس عوض التي لم تكتف بشعر أبي العلاء ولا بتزوير ترجمته بادعاء أنه تلميذ من تلاميذ راهب دير الفاروس باللاذقية، فتتعداه إلى تفسير القرآن، وربط وردة كالدهان بـ روزا مستيكا التي هي مريم أم المسيح، ظنا منه أن وردة المذكورة في سورة الرحمن من الورد المعروف الذي يُشم.

غير أن أبا فهر رحمه الله، لم يواصل في مقالاته دفاعه عن أبي العلاء فيما اتهم به من تلمذة لراهب دير الفاروس، فإنه بعد أن استقرأ كتب التراجم التي ترجمت لشيخ المعرة بمنهج تاريخي دقيق، توصل إلى أن ما ذكره لويس ليس حقيقة، بل هو تزوير لكلام بعض المترجمين، وآخرهم طه حسين، الذي لم ينتبه لخطئه ذلك، وأن هذه الحادثة لها من الأدلة ما يدحضها، وهي بين لغوية تركيبية، وتاريخية اجتماعية، وهنا توقف شاكر، وانتبه إلى مراد لويس عوض، فلا يريد من خلال هذه المقالات التي جعل أبا العلاء موضوعا في بعضها، إلا ليضرب مجموعة من الثوابت، ومنها ما لم يستح من ذكره عن موت الشعر العربي، وكسر عنق البلاغة واللغة العربية، والأجراس التي تتبع ذلك من موسيقى التجديد الذي لم يكن تجديدا مرادا في ذاته، بل كان وراءه قضية أخرى، .. الفصحى والعامية.

شاكر والعامية ... تاريخ طويل:

قضية الفصحى والعامية التي أثارها لويس عوض في سلسلة مقالاته التي نشرتها جريدة الأهرام، داعيا إلى مقارنة -لا مسوغ علمي ولا منهجي ولا واقعي لها- بين اللاتينية والإيطالية من جهة، والعربية واللهجة المصرية من جهة ثانية، معتقدا أن ما بين اللاتينية والإيطالية أقرب مما بين العربية والمصرية العامية، ولم يكتف لويس بهذا بل تجاوزه إلى الاعتراف بأن دعوى اللجوء إلى العامية لن يقبلها منه المصريون، وخاصة المسلمون، بل يجب أن يقوم بعبئها رجل من بني جلدتهم، فيكون الأمر أمضى وأكثر نجاعة.

وفي كل ذلك نجد شاكرا يحلل نوايا هذا المجترئ على لغة القرآن، ويسبر داخله بشيء من التمهل والحذر، يرافقه ذلك الأسلوب الذي لم يعهد مثله في كتابات شاكر ؛ الهزل.

محمود شاكر لم يعدّ القضية مجرد هتافات يصدرها هذا أو غيره ممن أسماهم المعلمين الأوائل؛ من أمثال سلامة موسى وغيره، لأن هؤلاء كانوا جادين في دعواتهم تلك، خاصة عندما صرّح لويس بأنه مهمة يجب أن يُصبَر عليها، حتى يأخذها واحد من بني جلدتهم ليُسمع رأيه ويطاع، وقد جاء معه وبعده من رأى رأيه، وحسب العربية لغة دينية لا أكثر، فلا تعدو أن تكون لغة تعبُّدٍ دون تواصل، متناسين أن اللغة قبل ذلك كله فكر وثقافة أمة، بل منهج تفكير، إن ضاعت ضاع منهجهم، بل ضاعوا بعدها إلى الأبد.

ومن لويس وأتباعه، يسير بنا أبو فهر نحو شخصية ليزيل عنها غطاءها، وهي شخصية الكاتب توفيق الحكيم، عضو مجمع اللغة العربية آنذاك، وقد ألف مقالات عن العامية المصرية يبين فيه أنها ليست سوى صورة من صور العربية الفصيحة، فلا اختلاف إلا في بعض الظواهر الصوتية والإعرابية، فالحديث بها هو حديث بالعربية لا غير، ويعد شاكر هذا الكلام هذيانا، لأنه خرج من قريحة رجل عضو في المجمع اللغوي، ومن كان في هذه المؤسسة لم يكن ليلق به أن يتكلم كلاما كهذا، لأنه لا يصح منهجا ولا علما، إنما هو محاولة لتمييع القضية، وإزالة ما يعترضها من الحواجز لتتم، ولكي يتخلى الناس عن عربيتهم وهم يحسبون أنهم متمسكون بها.

ثم إن حصر العربية في مجال الدين -كما أشار لويس ومن هم على شاكلته- لا يعني بالضرورة أنها خاصة بجانب العبادات، فهذا مفهوم خاطئ لأن مفهوم الدين في الإسلام، ليس هو ما يُفهم من غيره، ولذلك يذهب بنا كاتبنا في مقال يتلوه مقال إلى تعريفنا بهذا المصطلح؛ "الدين".

بحثه في الدين:

في المقالين اللذين خُصِّصا للحديث عن مصطلح الدين ومفهومه في عقيدة الإسلام، برع شاكر مرة أخرى في جمع الأدلة ثم استقرائها تحليلا وتفكيكا، كما فعل في مؤلفه عن الإعجاز حين استقصى في طلب معنى هذه الكلمة وتطورها في التراث، كذلك فعل مع مصطلح الدين المشترك معنويا بين مفاهيم كثيرة، وأهمها ذلك المفهوم الشامل الذي لا يختص بالعبادة وحدها، وإنما يشتمل كل الحياة بمعاملاتها وأحكامها...

ومن الفروق التي تستخلص من هذه النقطة بالذات، مسألة الرهبانية التي ثارت ضدها أوربا، والتي حاول المستشرقون من أمثال عوض وغيره أن يسقطوا آثارها على الإسلام، فادعوا أن العربية القديمة تمنع المسلمين من فهم دينهم، لأنهم لا يملكون معرفة بها، وهذا ينتج عنه -في ظنهم- أن العامية هي الأنجع لإشاعة الدين، فتخيل قرآنا بالعامية؟!

ولا يتذكر هؤلاء أن الواقع التاريخي للكنيسة مختلف تمام الاختلاف عن واقع المؤسسة الدينية في الإسلام؛ إن تعاليم المسيحية تنحصر في إعطاء ما لله لله، وما لقيصر لقيصر، غير أن الإسلام منهج حياة شامل بين عباداتها ومعاملاتها، إلا أن هذا المفهوم لا يبدو جليا في نصوص القرآن إلا بعد هجرة النبي rإلى المدينة المنورة، ولذلك يستعرض أبو فهر لقارئيه لفظة الدين في النصوص القرآنية، مراعيا في ذلك ترتيب النزول، فإنها دلت في أول الأمر على خالص العقيدة لله، ثم تحولت في آخر آيةٍ؛ )ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ( إلى منهج حياة شامل.

محمود شاكر؛ رجعي؟! 

ما تتميز به طريقة التأليف لدى كاتبنا، هو أنه لا يفوته شيء من المصطلحات التي تؤدى على نحو محدد، فلا يتركها حتى يبحث في معناها وتطوره عبر التاريخ، ومن ذلك كلمة "رجعي" التي وصف بها عند معسكر التبشيري لويس عوض، والتي رأى أنها بديل مشوه لكلمة "سلفي"، التي تعني الارتباط بالسلف الذي يمثله القرآن وكل الحضارة الإسلامية والعربية القويمة، إلى أن اتخذها سلامة موسى وغيره، بنبر فيه كيد، يراد منه تشويه الكلمة حتى تم استبدالها بكلمة "رجعي"، التي عنت المتمسكين بهويتهم، ورغم أنها كانت تعني في ظروف محددة: "الدولة المتزمتة"، إلا أن المراد التبشيري كان أثبت.

     وقفة معاصرة:                                

ولنا ههنا وقفة مع هذا الموقف، اذي مثله أشخاص أقرب هوية إلى محمود محمد شاكر، وأبعد من لويس عوض -أو كان يظن بهم ذلك- غير أنهم تنكروا لأبي فهر ووصفوه بالرجعية والتخلف لمجرد أن عوض هو المستشار العام لجريدة معروفة لها وزنها في الصحافة، وفي أوساط المثقفين.

هذا الموقف، يعيدنا إلى ما حصل منذ مدة بين شيخ الأزهر، ورئيس جامعة القاهرة، إذ كشف الشيخ أحمد الطيب أخطاء الرئيس المعرفية في محاضراته عن التجديد ورفض التراث، وإذا بالعالم كله ينقلب ضده، لمجرد تصحيحه مفاهيم محرفة عند هؤلاء العلمانيين، وهاجموا الشيخ واتهموه بالرجعية، وبغيرها من النعوت التي تُعرف معانيها اليوم.

وهذا الموقف أيضا، يجعلنا نطرح سؤالا هو: كيف نعود بهؤلاء إلى التراث الصحيح؟ بدون أن يروا فينا رجعية صماء؟

ولهذا السؤال الإشكالي أسئلة افتراضية، أهمها: هل يمكن أن يكون الحل في الأنظمة السياسية التي تلعب دور البعيد عن هذه السجالات، وهي في حقيقة الأمر الباعث الوحيد لها، لفائدتين:

أولهما: شغل الناس بهذه السجالات عن مقاصدهم الحقيقية كمقصد العدالة والكرامة وغيرها.

وثانيهما: هدم النموذج الذي يركن إليه الشعوب، وهو الدين، وزعزعة مفاهيمه في أذهانهم بما يعرض اليوم من تمويهات وتحريفات يتبناها بوضوح، أدعياء التنوير والعلمانية المعاصرة، وتتولى الإشراف عليها أنظمتنا، من بعيد.

هذه الموضوعات التي ملأت كتاب "أباطيل وأسمار"، كانت في ظاهرها موضوعات مشعثة متفرقة، غير أن شاكر رحمه الله استطاع أن ينظمها في سلك واحد هو مفهوم التبشير؛ إنها كلها دعاوى تبشيرية، وإذا كان ذلك كذلك، فبنا أن ننظر ماهية التبشير وكنهه، في رأي كاتبنا.

التبشير ليس دعوة إلى النصرانية:

الذي يظن أن الحملات التبشيرية التي غزت العالم عامة، والوطن الإسلامي خاصة، مجرد حملات دعوية إلى اعتناق المسيحية، فهو لا يعدو كونه مغفلا، فالتبشير لم يكن في يوم من الأيام مجرد دعوة إلى المسيحية، بل هو حملات استشراقية الغرض منها تشويه منهج تفكير، بل إسقاط حضارة كاملة من عقول المسلمين، واستبدال مسوخ وتشوهات بها، ليتسنى للغرب التحكم في هذه الشعوب، وهذا جلي في التاريخ؛ فإن الاستعمار الذي أخضع تلك الشعوب لم يكن عسكريا، بل كان فكريا قبل كل شيء، وفي هذا ندع أبا فهر يستقرئ لنا هذا التاريخ بأسلوبه المختصر الفني إذ يقول: "ولكن كانت تجارب الحروب الصليبية القديمة، وحروب آل عثمان من الترك، قد دلّت دلالة قاطعة على أن مواجهة العالم الإسلامي بالانقضاض المسلح، لا تجدي إلا انبعاث قوة متماسكة شديدة البأس والخطر، خليقة أن تسترد شبابها، مهما كان في كيانها من العيوب، وسرعان ما تلم شعثها إلى معركة فاصلة كسائر المعارك الأولى التي ردت غزاة الصليبية على أعقابهم، فكان من الحكمة إذن، تجنب المواجهة، وكان من حسن التدبير واتقاء العواقب، أن تدور هذه القوة الجديدة الأوربية من حول العالم الإسلامي، تتنقّصه من أطرافه البعيدة، بمهارة وحذر، حتى لا يرتاع قلب هذا العالم الغافل (يعني العالم الإسلامي ، وانظر إلى إيحائه رحمه الله)، فينفض التراب عن ثيابه، ويمسح النوم عن وجهه، ودبت أوربة دبيبا حول هذا العالم، وجعلت تطوّق شواطئ القارة الإفريقية من الغرب إلى أن بلغت شواطئ الهند، طوّقته يومئذ بطوق من الثغور تحتلها، ثم تنفذ من كل ثغر إلى بدن العالم الإسلامي، شيئا فشيئا، على حذر شديد، وبلا ضجيج يزعج، نعم، كان هذا غزوا ولكنه غزو خفي الوطء ... كان غزوا أقل ما فيه نكاية هو الجيوش، وأبلغه افتراسا هو التجارة، وأفتكه بالإنسان هو التبشير، وهذه الصورة، لا يكاد يخطئها من كان له أدنى إلمام بتاريخ الغزو الأوربي المسيحي للعالم الإسلامي". (أباطيل وأسمار؛ ص: 149).

أني لي أن أبلغ كل ما في الكتاب، فهو بحر لا شواطئ يرسى عليها، ولا عمق يمكن أن يُخلص إليه، ربما يكفي أني جمعت شيئا مما فيه من الصدفات والكنوز الغائرة فيه، وفي هذا كفاية، وعلى المهتم أن يعود إليه، فليس من رأى كمن سمع، ورحم الله أبا فهر، وجعل كتاباته شفيعا له يوم يعز الشفعاء، لا نزكيه على الله، لكن نحكم بظاهر ما ألف، وبمشاعره التي كانت بيّنة جليّة، وفيها من الأنفة والغيرة على دين الله ما لا يخفى، والحمد لله رب العالمين.

 

تمت القراءة في: 5 محرم 1442ه/ 24 أوت 2020.